إذا كنت تود الاطلاع على نسخة مختصرة من هذا التقرير في شكل مقطع فيديو، فعليك أن تضغط هنا
باريس ليست مدينة جميلة؛ يتوارى القبح بكل أشكاله خلف كل صورة رأيتها يوماً لعاصمة النور. هذا ما يخبرنا به كل الذين تعرضوا لما يوصف بمتلازمة باريس؛ أن تتوقع زيارة مدينة مثالية، فيفسد جرذ تجربة وقوفك أسفل برج إيفل، وتعكِّر القمامة صفو محاولاتك للتجول، وقد تكون سيئ الحظ كفاية لتنتهي رحلتك البائسة بالتعرض للنشل.
هذه هي باريس الذي يعرفها سكانها جيداً؛ لذا وجه البعض منهم رسالة واضحة لكل من يرغب في زيارة باريس لمشاهدة دورة الألعاب الأولمبية: «ألغِ رحلتك، لا تأتِ».
في حين يؤكد المسئولون أن دورة باريس 2024 ستكون الأكثر أماناً، نظافة، وصداقة للبيئة. أين الحقيقة إذن؟
«بالتأكيد سيكون توني إستانغيه، رئيس اللجنة المنظمة، أكثر الأشخاص سعادة بنتيجة الانتخابات».
- ديفيد روزين، متخصص في الألعاب الأولمبية بمركز أبحاث جان جوريس في باريس.
قبل ثلاثة أسابيع من انطلاق دورة الألعاب الأولمبية باريس 2024، كاد قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بإجراء انتخابات نيابية مبكرة أن يضع حزب التجمع الوطني اليميني في السلطة.
فاز ائتلاف اليسار بمعظم مقاعد البرلمان، متغلباً على اليمين المتطرف، ما منع إمكانية تشكيل أول حكومة يمينية متطرفة منذ الحرب العالمية الثانية. لكن بدون حصول أي حزب على أغلبية واضحة، تحولت نتيجة الانتخابات لمأزق سياسي قبل انطلاق أولمبياد باريس 2024 مباشرة.
بالطبع، لا يمكن توقع تأثير استضافة دورة الألعاب الأولمبية على المشهد السياسي الفرنسي غير المستقر، لكن التاريخ يخبرنا أنه لا بد أن يترك بصمة.
طوال تاريخها وفرت الألعاب الأولمبية غطاءً سياسياً للسلطة. فمثلاً، وصفت نيويورك تايمز هتلر قبل استضافة برلين لأولمبياد 1936 بأنه أحد أعظم إن لم يكن أعظم القادة السياسيين للعالم.
وعلى الرغم من أن الميثاق الأولمبي يؤكد سعي الألعاب الأولمبية كمنافسة إلى استخدام الفضيلة الأخلاقية المرتبطة بالرياضة من أجل تعزيز المرأة والتفاهم بين الشعوب، كان الصليب المعروف يحلق بجوار علم الألعاب الأولمبية المكون من خمس حلقات. بمعنى أن الرسالة المرجوة كانت باختصار: دعم الألعاب الأولمبية يعني دعم النازية.
لحسن الحظ لم يفز اليمين الفرنسي بالانتخابات، بالتالي لن تصبح المنافسات مسرحاً للتغطية على أجندة تُحقِّر من شأن الأقليات والمهاجرين. لكن السؤال: هل يكترث اليسار الفرنسي حقاً لشئون نفس الأقليات والمهاجرين؟ ربما تمنحنا الألعاب الأولمبية إجابة.
في مايو 2024، استعان موقع اللجنة الدولية الأولمبية بتقرير نشره مركز القانون والاقتصاد الرياضي التابع لجامعة ليموج لتحليل الآثار الاقتصادية المتوقعة لاستضافة مدينة النور للمنافسات الأولمبية.
طبقاً للتقرير، يتوقع أن تبلغ قيمة الفوائد الاقتصادية لإقامة الأولمبياد في المدينة رقماً بين 6.7 و11 مليار يورو خلال الفترة بين 2018 و2034، وهي الفترة بين بدء الاستعدادات والإرث الناتج عن الحدث نفسه.
لكن الأهم - حسب نفس التقرير - هو أن 80% من الاستثمارات العامة موجهة بالأساس إلى سان دوني، التي تعد أحد أصغر ضواحي فرنسا وأكثرها حرماناً؛ إذ يتوقع أن توفر القرية الأولمبية الواقعة في نفس الضاحية نحو 2800 وحدة سكنية ومدرستين جديدتين يستفيد منها ما يدنو من 6000 شخص.
إذا أضفت إلى ذلك التزام باريس بالميزانية الموضوعة لإقامة الفعاليات تقريباً عبر قرار بالحد من بناء منشآت جديدة وتكييف البنية التحتية المتاحة لاستضافة 869 حدثاً أولمبياً، قد يبدو أننا بالفعل أمام خطة شبه مثالية. لكن دائماً ما يكون الطريق للجحيم مفروشاً بالنوايا الحسنة.
«تتمتع الألعاب الأولمبية بسجل حافل من المساهمات في تعزيز قوة الدولة عبر تمرير تشريعات وشراء معدات حديثة لفرض تقنيات مراقبة أمنية. وغالباً ما تظل هذه التشريعات سارية حتى بعد انتهاء المنافسات، مما يؤدي إلى تطبيع الممارسات الأمنية القاسية ضد النشطاء في وقت لاحق».
- جوليس بويكوف، المؤلف الأمريكي وأستاذ العلوم السياسية.
لطالما كانت دورات الألعاب الأولمبية هدفاً للأعمال الإرهابية؛ لذلك تفرض المدن المستضيفة المزيد من الإجراءات الأمنية. بالفعل، في مايو 2023، سنَّت فرنسا «قانون الألعاب الأولمبية»، الذي يُشرِّع المراقبة بالفيديو باستخدام الذكاء الاصطناعي.
انتقدت منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش هذا القانون الذي يفترض أن يظل سارياً حتى 2025.
وعلى الرغم من تأكيدات وزارة الداخلية الفرنسية أن هذا الإجراء هدفه حفظ الأمن العام، وتأكيدات وزارة الرياضة أن القانون له مدة زمنية محددة جداً، تعتقد نويمي لافين أن القانون الأولمبي ينتهك خصوصية الأفراد وموجه لاستهداف الفقراء، الأقليات والناشطين السياسيين، فيما كانت السياسية الفرنسية دانيال سيمونيه أكثر جرأة؛ إذ صرحت أن استضافة الألعاب الأولمبية ليست سوى ذريعة لتسريع سياسة المراقبة العامة.
بذكر الحرية، أعلن لوران نونيز، قائد شرطة باريس، أنه سيتوجب على المقيمين في محيط المناطق الأولمبية استخراج رمز الاستجابة السريعة QR Code حتى يسمح لهم بالوصول إلى المناطق المحظورة خلال المنافسات. وذلك على الرغم من تطمينات مجلس المدينة أن الحياة اليومية ستستمر خلال المنافسات بشكل عادي.
هذا ما وصفه المؤلف الأمريكي جوليس بويكوف بالتضحية بحرية البشر العاديين كقربان للمشهد الأولمبي.
في أبريل 2023 داهمت الشرطة الفرنسية مصنعاً مهجوراً في محيط المنطقة الأولمبية بباريس، كان يئوي ما يدنو من 500 مهاجر، ثم تمت إزاحتهم للداخل الباريسي.
وفقاً لتقرير صادر عن حملة الجانب الآخر من الميدالية، خلال عامي 2023 و2024، زادت عمليات إخلاء المساكن المحيطة بمناطق الألعاب الأولمبية بنسبة وصلت لـ39%؛ إذ نزح ما يقرب من 12500 شخص من باريس.
من جانبها، نفت الحكومة أي علاقة بين التهجير القسري وبين الألعاب الأولمبية، لكن طبقاً لأنطوان دي كليرك، مدير الحملة، ما يحدث هو أقرب للتطهير الاجتماعي، وتكثيف عمليات الإخلاء لا يدل إلا على وجود علاقة بين التهجير وبين استضافة دورة الألعاب باريس 2024.
في الواقع، هذا ليس جديداً، عادة ما تحبذ المدن المستضيفة للألعاب الأولمبية طرد الفقراء فيها قبل وصول وسائل الإعلام العالمية بفترة مناسبة، ما جعل طرد غير المرغوب فيهم جزءاً من الحمض النووي للمنافسات على مدى تاريخها.
يخبرنا الكاتب ديفيد جولدبلات في كتابه «التاريخ العالمي للألعاب الأولمبية» عن عدة حوادث مشابهة. على سبيل المثال وليس الحصر؛ احتجز هتلر الغجر في معسكرات الاعتقال قبل أولمبياد برلين 1936، بينما طُلب من مافيا الياكوزا إرسال أعضائها الأكثر خطورة في إجازة خارج طوكيو قبل انطلاق الفعاليات في 1964، فيما قرر النظام العسكري الكوري الجنوبي تدمير أحياء كانت تئوي أكثر من 720 ألف إنسان من أجل تجميل مدينة سيول قبل دورة 1988.
من ناحية اقتصادية، يعتقد كريستوف ليبتيه، رئيس قسم الدراسات الاقتصادية في مركز القانون والاقتصاد الرياضي (CDES)، أن اللجنة المنظمة نجحت بالفعل في الالتزام بالميزانية المحددة لاستضافة الدورة، مع هامش زيادة بسيط يمكن إرجاعه للتضخم.
لكنه مع ذلك لا يتوقع تأثيراً اقتصادياً إيجابياً ملحوظاً؛ لأن استضافة الحدث الأولمبي ليس الغرض منه تحقيق نمو اقتصادي، بل يكون لأسباب اجتماعية وجيوسياسية.
قبل 100 عام وتحديداً في 1924 استخدمت فرنسا الألعاب الأولمبية كأداة ناعمة؛ شهدت دورة باريس وقتئذٍ الاستخدام الأول للدعاية ووسائل الإعلام للترويج للحدث، بل كانت أول مناسبة تُطوَّع فيها البيروقراطية لتعزيز المصالح الوطنية من خلال الرياضة.
آنذاك، كانت فرنسا محطمة تماماً، على الرغم من انتصارها في الحرب العالمية الأولى، لكن استضافة الألعاب كانت رسالة احتفال بعصر جديد تقود فيه فرنسا عصبة الأمم. وربما تريد المضطربة سياسياً واجتماعياً اليوم إرسال رسالة مشابهة، حتى ولو لم يتلقفها مواطنوها أنفسهم.